الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.كتاب صلاة المسافرين: .باب صَلاَةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا: 1105- قَوْلهَا: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَر وَالسَّفَر، فَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر وَزِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْقَصْر فِي السَّفَر، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك بْن أَنَس وَأَكْثَر الْعُلَمَاء: يَجُوز الْقَصْر وَالْإِتْمَام، وَالْقَصْر أَفْضَل. وَلَنَا قَوْل: إِنَّ الْإِتْمَام أَفْضَل، وَوَجْه أَنَّهُمَا سَوَاء، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّ الْقَصْر أَفْضَل.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَكَثِيرُونَ: الْقَصْر وَاجِب وَلَا يَجُوز الْإِتْمَام، وَيَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيث، وَبِأَنَّ أَكْثَر فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانَ الْقَصْر، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَة فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره أَنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهُمْ الْقَاصِر وَمِنْهُمْ الْمُتِمّ وَمِنْهُمْ الصَّائِم وَمِنْهُمْ الْمُفْطِر، لَا يَعِيب بَعْضهمْ عَلَى بَعْض، وَبِأَنَّ عُثْمَان كَانَ يُتِمّ، وَكَذَلِكَ عَائِشَة وَغَيْرهَا، وَهُوَ ظَاهِر قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْع الْجُنَاح وَالْإِبَاحَة.وَأَمَّا حَدِيث: فُرِضَتْ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ: فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا. فَزِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر رَكْعَتَانِ عَلَى سَبِيل التَّحْتِيم، وَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار وَثَبَتَتْ دَلَائِل جَوَاز الْإِتْمَام؛ فَوَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهَا وَالْجَمْع بَيْن دَلَائِل الشَّرْع.1107- قَوْله: (فَقُلْت لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَة تُتِمّ فِي السَّفَر؟ فَقَالَ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَان) اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيلهمَا. فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْقَصْر جَائِزًا وَالْإِتْمَام جَائِزًا فَأَخَذَا بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَهُوَ الْإِتْمَام.وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَان إِمَام الْمُؤْمِنِينَ وَعَائِشَة أُمّهمْ فَكَأَنَّهُمَا فِي مَنَازِلهمَا، وَأَبْطَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَان تَأَهَّلَ بِمَكَّة. وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ بِأَزْوَاجِهِ وَقَصَرَ، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْل الْأَعْرَاب الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ فَرْض الصَّلَاة رَكْعَتَانِ أَبَدًا حَضَرًا وَسَفَرًا، وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ اِشْتَهَرَ أَمْر الصَّلَاة فِي زَمَن عُثْمَان أَكْثَر مِمَّا كَانَ.وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَان نَوَى الْإِقَامَة بِمَكَّة بَعْد الْحَجّ. وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ الْإِقَامَة بِمَكَّة حَرَام عَلَى الْمُهَاجِر فَوْق ثَلَاث.وَقِيلَ: كَانَ لِعُثْمَان أَرْض بِمِنًى، وَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْإِتْمَام وَالْإِقَامَة. وَالصَّوَاب الْأَوَّل، ثُمَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور: أَنَّهُ لَا يَجُوز الْقَصْر فِي كُلّ سَفَر مُبَاح. وَشَرَطَ بَعْض السَّلَف كَوْنه سَفَر خَوْف، وَبَعْضهمْ كَوْنه سَفَر حَجّ أَوْ عَمْرَة أَوْ غَزْو، وَبَعْضهمْ كَوْنه سَفَر طَاعَة.قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَالْأَكْثَرُونَ: وَلَا يَجُوز فِي سَفَر الْمَعْصِيَة، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَصْحَابهمَا وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث وَغَيْرهمْ: وَلَا يَجُوز الْقَصْر إِلَّا فِي مَسِيرَة مَرْحَلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ وَهِيَ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّة، وَالْمِيل: سِتّ آلَاف ذِرَاع، وَالذِّرَاع أَرْبَع وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا مُعْتَرِضَة مُعْتَدِلَة، وَالْإِصْبَع: سِتّ شُعَيْرَات مُعْتَرِضَات مُعْتَدِلَات.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يُقْصِر فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاث مَرَاحِل. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْل الظَّاهِر: يَجُوز فِي السَّفَرِ الطَّوِيل وَالْقَصِير حَتَّى لَوْ كَانَ ثَلَاثَة أَمْيَال قَصَرَ.1108- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن بَابَيْهِ) هُوَ بِبَاءِ مُوَحَّدَة ثُمَّ أَلِف ثُمَّ مُوَحَّدَة أُخْرَى مَفْتُوحَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت، وَيُقَال فيه: اِبْن بَابَاهُ، وَابْن بَابِي بِكَسْرِ الْبَاء الثَّانِيَة.قَوْله: «عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقَة تَصَدَّقَ اللَّه تَعَالَى بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَته» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض الْأُصُول: «مَا عَجِبْت» وَفِي بَعْضهَا: «عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت»، وَهُوَ الْمَشْهُور الْمَعْرُوف. وَفيه: جَوَاز قَوْل تَصَدَّقَ اللَّه عَلَيْنَا، وَاَللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْض السَّلَف، وَهُوَ غَلَط ظَاهِر، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي أَوَاخِر كِتَاب الْأَذْكَار، وَفيه: جَوَاز الْقَصْر فِي غَيْر الْخَوْف. وَفيه: أَنَّ الْمَفْضُول إِذَا رَأَى الْفَاضِل يَعْمَل شَيْئًا يُشْكِل عَلَيْهِ يَسْأَلهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.1109- قَوْله: «عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: فَرَضَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الصَّلَاة عَلَى لِسَان نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة» هَذَا الْحَدِيث قَدْ عَمِلَ بِظَاهِرِهِ طَائِفَة مِنْ السَّلَف، مِنْهُمْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور: إِنَّ صَلَاة الْخَوْف كَصَلَاةِ الْأَمْن فِي عَدَد الرَّكَعَات، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَضَر وَجَبَ أَرْبَع رَكَعَات، وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّفَر وَجَبَ رَكْعَتَانِ. وَلَا يَجُوز الِاقْتِصَار عَلَى رَكْعَة وَاحِدَة فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال، وَتَأَوَّلُوا حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد رَكْعَة مَعَ الْإِمَام وَرَكْعَة أُخْرَى يَأْتِي بِهَا مُنْفَرِدًا كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه فِي الْخَوْف. وَهَذَا التَّأْوِيل لابد مِنْهُ لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَدِلَّة. وَاللَّهُ أَعْلَم.1110- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَيُّوب بْن عَائِذ) هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.1112- قَوْله فِي حَدِيث حَفْص بْن عَاصِم عَنْ اِبْن عُمَر: (ثُمَّ صَحِبْت عُثْمَان فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه) وَذَكَرَ مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ: (وَمَعَ عُثْمَان صَدْرًا مِنْ خِلَافَته ثُمَّ أَتَمَّهَا)، وَفِي رِوَايَة (ثَمَان سِنِينَ أَوْ سِتّ سِنِينَ)، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور أَنَّ عُثْمَان أَتَمَّ بَعْد سِتّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَته. وَتَأَوَّلَ الْعُلَمَاء هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ عُثْمَان لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه فِي غَيْر مِنًى، وَالرِّوَايَات الْمَشْهُورَة بِإِتْمَامِ عُثْمَان بَعْد صَدْر مِنْ خِلَافَته مَحْمُولَة عَلَى الْإِتْمَام بِمِنًى خَاصَّة.وَقَدْ فَسَّرَ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن فِي رِوَايَته أَنَّ إِتْمَام عُثْمَان إِنَّمَا كَانَ بِمِنًى، وَكَذَا ظَاهِر الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْر مَشْرُوع بِعَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَة وَمِنًى لِلْحَاجِّ مِنْ غَيْر أَهْل مَكَّة وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَلَا يَجُوز لِأَهْلِ مَكَّة وَمَنْ كَانَ دُون مَسَافَة الْقَصْر. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْأَكْثَرِينَ.وَقَالَ مَالِك: يُقْصِر أَهْل مَكَّة وَمِنًى وَمُزْدَلِفَة وَعَرَفَات، فَعِلَّة الْقَصْر عِنْده فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع النُّسُك، وَعِنْد الْجُمْهُور عِلَّته السَّفَر. وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: «حَتَّى جَاءَ رَحْله» أَيْ مَنْزِله.قَوْله: «فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ» أَيْ حَضَرَتْ وَحَصَلَتْ.قَوْله: «لَوْ كُنْت مُسَبِّحًا أَتْمَمْت صَلَاتِي» الْمُسَبِّح هُنَا الْمُتَنَفِّل بِالصَّلَاةِ، وَالسُّبْحَة هُنَا صَلَاة النَّفْل.1113- وَقَوْله: «وَلَوْ كُنْت مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْت» مَعْنَاهُ: لَوْ اِخْتَرْت التَّنَفُّل لَكَانَ إِتْمَام فَرِيضَتِي أَرْبَعًا أَحَبّ إِلَيَّ، وَلَكِنِّي لَا أَرَى وَاحِدًا مِنْهُمَا، بَلْ السُّنَّة الْقَصْر وَتَرْك التَّنَفُّل، وَمُرَاده النَّافِلَة الرَّاتِبَة مَعَ الْفَرَائِض كَسُنَّةِ الظُّهْر وَالْعَصْر وَغَيْرهَا مِنْ الْمَكْتُوبَات.وَأَمَّا النَّوَافِل الْمُطْلَقَة فَقَدْ كَانَ اِبْن عُمَر يَفْعَلهَا فِي السَّفَر، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي مَوَاضِع مِنْ الصَّحِيح عَنْهُ.وَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب النَّوَافِل الْمُطْلَقَة فِي السَّفَر، وَاخْتَلَفُوا فِي اِسْتِحْبَاب النَّوَافِل الرَّاتِبَة فَكَرِهَهَا اِبْن عُمَر وَآخَرُونَ، وَاسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَالْجُمْهُور، وَدَلِيله الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة فِي نَدْب الرَّوَاتِب، وَحَدِيث صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضُّحَى يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة، وَرَكْعَتَيْ الصُّبْح حِين نَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْس، وَأَحَادِيث أُخَر صَحِيحَة ذَكَرَهَا أَصْحَاب السُّنَن، وَالْقِيَاس عَلَى النَّوَافِل الْمُطْلَقَة، وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الرَّوَاتِب فِي رَحْله، وَلَا يَرَاهُ اِبْن عُمَر؛ فَإِنَّ النَّافِلَة فِي الْبَيْت أَفْضَل، أَوْ لَعَلَّهُ تَرَكَهَا فِي بَعْض الْأَوْقَات تَنْبِيهًا عَلَى جَوَاز تَرْكهَا.وَأَمَّا مَا يَحْتَجّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِتَرْكِهَا مِنْ أَنَّهَا لَوْ شُرِعَتْ لَكَانَ إِتْمَام الْفَرِيضَة أَوْلَى، فَجَوَابه أَنَّ الْفَرِيضَة مُتَحَتِّمَة فَلَوْ شُرِعَتْ تَامَّة لَتَحَتَّمَ إِتْمَامهَا.وَأَمَّا النَّافِلَة فَهِيَ إِلَى خِيَرَة الْمُكَلَّف فَالرِّفْق أَنْ تَكُون مَشْرُوعَة، وَيَتَخَيَّر إِنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَحَصَلَ ثَوَابهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.1115- قَوْله: «صَلَّى الظُّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَة رَكْعَتَيْنِ» وَبَيْن الْمَدِينَة وَذِي الْحُلَيْفَة سِتَّة أَمْيَال،، وَيُقَال: سَبْعَة. هَذَا مِمَّا اِحْتَجَّ بِهِ أَهْل الظَّاهِر فِي جَوَاز الْقَصْر فِي طَوِيل السَّفَر وَقَصِيره.وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا يَحُوز الْقَصْر إِلَّا فِي سَفَر يَبْلُغ مَرْحَلَتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة: شَرْطه ثَلَاث مَرَاحِل، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ الصَّحَابَة.وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيث فَلَا دَلَالَة فيه لِأَهْلِ الظَّاهِر؛ لِأَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ حِين سَافَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة فِي حَجَّة الْوَدَاع صَلَّى الظُّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَدْرَكْته الْعَصْر وَهُوَ مُسَافِر بِذِي الْحُلَيْفَة، فَصَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ. وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَة كَانَ غَايَة سَفَره فَلَا دَلَالَة فيه قَطْعًا.وَأَمَّا اِبْتِدَاء الْقَصْر فَيَجُوز مِنْ حِين يُفَارِق بُنْيَان بَلَده أَوْ خِيَام قَوْمه إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْخِيَام، هَذَا جُمْلَة الْقَوْل فيه، وَتَفْصِيله مَشْهُور فِي كُتُب الْفِقْه. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا رِوَايَة ضَعِيفَة عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يَقْصُر حَتَّى يُجَاوِز ثَلَاثَة أَمْيَال. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاء وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَر قَصَرَ قَبْل خُرُوجه، وَعَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ لَا يَقْصُر فِي يَوْم خُرُوجه حَتَّى يَدْخُل اللَّيْل، وَهَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا مُنَابِذَة لِلسُّنَّةِ وَإِجْمَاع السَّلَف وَالْخَلَف.1116- قَوْله: (يَحْيَى بْن يَزِيد الْهُنَائِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْهَاء وَبَعْدهَا نُون مُخَفَّفَة وَبِالْمَدِّ الْمَنْسُوب إِلَى هَنَاء بْن مَالِك بْن فَهْم، قَالَهُ السَّمْعَانِيّ.قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَة أَمْيَال أَوْ ثَلَاثَة فَرَاسِخ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» هَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيل الِاشْتِرَاط، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِحَسَبِ الْحَاجَة، لِأَنَّ الظَّاهِر مِنْ أَسْفَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَافِر سَفَرًا طَوِيلًا، فَيَخْرُج عِنْد حُضُور فَرِيضَة مَقْصُورَة وَيَتْرُك قَصْرهَا بِقُرْبِ الْمَدِينَة وَيُتِمّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُسَافِر بَعِيدًا مِنْ وَقْت الْمَقْصُورَة فَتُدْرِكهُ عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال أَوْ أَكْثَر أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَيُصَلِّيهَا حِينَئِذٍ. وَالْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة مَعَ ظَاهِر الْقُرْآن مُتَعَاضِدَات عَلَى جَوَاز الْقَصْر مِنْ حِين يَخْرُج مِنْ الْبَلَد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَمَّى مُسَافِرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.1117- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ يَزِيد بْن خُمَيْر عَنْ حَبِيب بْن عُبَيْد عَنْ جُبَيْر بْن نُفَيْر قَالَ: خَرَجْت مَعَ شُرَحْبِيل بْن السِّمْط إِلَى قَرْيَة عَلَى رَأْس سَبْعَة عَشَر أَوْ ثَمَانِيَة عَشَر مِيلًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْت لَهُ فَقَالَ: رَأَيْت عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَة رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْت لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَل كَمَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل) هَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة تَابِعِيِّينَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض يَزِيد بْن خُمَيْر فَمَنْ بَعْده، وَتَقَدَّمَتْ لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة، وَسَيَأْتِي بَيَان بَاقِيهَا فِي مَوَاضِعهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. و(يَزِيد بْن خُمَيْر) بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة. و(نُفَيْر) بِضَمِّ النُّون وَفَتْح الْفَاء. و(السِّمْط) بِكَسْرِ السِّين وَإِسْكَان الْمِيم، وَيُقَال: السَّمِط بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر الْمِيم. وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا قَدْ يُتَوَهَّم أَنَّهُ دَلِيل لِأَهْلِ الظَّاهِر، وَلَا دَلَالَة فيه بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي فيه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْقَصْر بِذِي الْحُلَيْفَة وَلَيْسَ فيه أَنَّهَا غَايَة السَّفَر.وَأَمَّا قَوْله: (قَصَرَ شُرَحْبِيل عَلَى رَأْس سَبْعَة عَشَر مِيلًا أَوْ ثَمَانِيَة عَشَر مِيلًا) فَلَا حُجَّة فيه؛ لِأَنَّهُ تَابِعِيّ فَعَلَ شَيْئًا يُخَالِف الْجُمْهُور، أَوْ يُتَأَوَّل عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَثْنَاء سَفَره، لَا أَنَّهَا غَايَته. وَهَذَا التَّأْوِيل ظَاهِر وَبِهِ يَصِحّ اِحْتِجَاجه بِفِعْلِ عُمَر، وَنَقْله ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَم.قَوْله: (أَتَى أَرْضًا يُقَال لَهَا: دُومَيْنِ مِنْ حِمْص عَلَى رَأْس ثَمَانِيَة عَشَر مِيلًا) هِيَ بِضَمِّ الدَّال وَفَتْحهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَالْوَاو سَاكِنَة وَالْمِيم مَكْسُورَة، وَحِمْص لَا يَنْصَرِف وَإِنْ كَانَتْ اِسْمًا ثُلَاثِيًّا سَاكِن الْأَوْسَط؛ لِأَنَّهَا عَجَمِيَّة اِجْتَمَعَ فيها الْعُجْمَة وَالْعَلَمِيَّة وَالتَّأْنِيث، كَمَاه وَجَوْر وَنَظَائِرهمَا.1118- قَوْله: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ، قُلْت: كَمْ أَقَامَ بِمَكَّة؟ قَالَ: عَشْرًا» هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَامَ فِي مَكَّة وَمَا حَوَالَيْهَا لَا فِي نَفْس مَكَّة فَقَطْ. وَالْمُرَاد فِي سَفَره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، فَقَدِمَ مَكَّة فِي الْيَوْم الرَّابِع فَأَقَامَ بِهَا الْخَامِس وَالسَّادِس وَالسَّابِع، وَخَرَجَ مِنْهَا فِي الثَّامِن إِلَى مِنًى وَذَهَبَ إِلَى عَرَفَات فِي التَّاسِع، وَعَادَ إِلَى مِنًى فِي الْعَاشِر، فَأَقَامَ بِهَا الْحَادِي عَشَر وَالثَّانِي عَشَر وَنَفَرَ فِي الثَّالِث عَشَر إِلَى مَكَّة، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة فِي الرَّابِع عَشَر، فَمُدَّة إِقَامَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّة وَحَوَالَيْهَا عَشْرَة أَيَّام، وَكَانَ يَقْصُر الصَّلَاة فيها كُلّهَا. فَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُسَافِر إِذَا نَوَى إِقَامَة دُون أَرْبَعَة أَيَّام سِوَى يَوْمَيْ الدُّخُول وَالْخُرُوج يَقْصُر، وَأَنَّ الثَّلَاثَة لَيْسَتْ إِقَامَة؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ هُوَ وَالْمُهَاجِرُونَ ثَلَاثًا بِمَكَّة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَة لَيْسَتْ إِقَامَة شَرْعِيَّة وَأَنَّ يَوْمَيْ الدُّخُول وَالْخُرُوج لَا يُحْسَبَانِ مِنْهَا، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَة قَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَفيها خِلَافٌ مُنْتَشِرٌ لِلسَّلَفِ..باب قَصْرِ الصَّلاَةِ بِمِنًى: 1119- قَوْله: «بِمِنًى وَغَيْره» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (وَغَيْره) وَهُوَ صَحِيح لِأَنَّ (مِنًى) تُذَكَّر وَتُؤَنَّث بِحَسْب الْقَصْد إِنْ قَصَدَ الْمَوْضِع فَمُذَكَّرٌ أَوْ الْبُقْعَة فَمُؤَنَّثَة، وَإِذَا ذُكِّرَ صُرِفَ وَكُتِبَ بِالْأَلِفِ، وَإِنْ أُنِّثَ لَمْ يُصْرَف، وَكُتِبَ بِالْيَاءِ، وَالْمُخْتَار تَذْكِيره وَتَنْوِينه. وَسُمِّيَ مِنًى لِمَا يُمْنَى بِهِ مِنْ الدِّمَاء أَيْ يُرَاق.1121- قَوْله: (خُبَيْب بْن عَبْد الرَّحْمَن) هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَضْمُومَة، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّل الْكِتَاب وَغَيْره.1122- قَوْله: «فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَع رَكَعَات رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ» مَعْنَاهُ: لَيْتَ عُثْمَان صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَدَل الْأَرْبَع كَمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي صَدْر خِلَافَته يَفْعَلُونَهُ. وَمَقْصُوده كَرَاهَة مُخَالَفَة مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مُوَافِق عَلَى جَوَاز الْإِتْمَام، وَلِهَذَا كَانَ يُصَلِّي وَرَاء عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مُتِمًّا، وَلَوْ كَانَ الْقَصْر عِنْده وَاجِبًا لَمَا اِسْتَجَازَ تَرْكه وَرَاء أَحَد.وَأَمَّا قَوْله: (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَاسْتَرْجَعَ) فَمَعْنَاهُ: كَرَاهَة الْمُخَالَفَة فِي الْأَفْضَل كَمَا سَبَقَ.1124- قَوْله: (قَالَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: حَارِثَة بْن وَهْب الْخُزَاعِيّ هُوَ أَخُو عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب لِأُمِّهِ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (أَخُو عُبَيْد اللَّه) بِضَمِّ الْعَيْن مُصَغَّر، وَوَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول (أَخُو عَبْد اللَّه) بِفَتْحِ الْعَيْن مُكَبَّر وَهُوَ خَطَأ وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَكْثَر رُوَاة صَحِيح مُسْلِم، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَابْن أَبِي حَاتِم وَابْن عَبْد الْبَرّ وَخَلَائِق لَا يُحْصَوْنَ كُلّهمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ أَخُو عُبَيْد اللَّه مُصَغَّر، وَأُمّه مُلَيْكَة بِنْت جَرْوَل الْخُزَاعِيّ، تَزَوَّجَهَا عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَأَوْلَدَهَا اِبْنه عُبَيْد اللَّه، وَأَمَّا عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأُخْته حَفْصَة فَأُمُّهُمَا زَيْنَبُ بِنْت مَظْعُون..باب الصَّلاَةِ فِي الرِّحَالِ فِي الْمَطَرِ: 1126- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُر الْمُؤَذِّن إِذَا كَانَتْ لَيْلَة بَارِدَة أَوْ ذَات مَطَر فِي السَّفَر أَنْ يَقُول: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالكُمْ»، وَفِي رِوَايَة: «لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْله» وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: (أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْم مَطِير: إِذَا قُلْت: أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه فَلَا تَقُلْ: حَيّ عَلَى الصَّلَاة، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتكُمْ، قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاس اِسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا، فَقَدْ فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْر مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَة عَزْمَة وَإِنِّي كَرِهْت أَنْ أُحْرِجكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّين وَالدَّحْض)، وَفِي رِوَايَة: (فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْر مِنِّي يَعْنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى تَخْفِيف أَمْر الْجَمَاعَة فِي الْمَطَر وَنَحْوه مِنْ الْأَعْذَار، وَأَنَّهَا مُتَأَكِّدَة إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَة لِمَنْ تَكَلَّفَ الْإِتْيَان إِلَيْهَا وَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّة؛ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ فِي رَحْله، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَة فِي السَّفَر، وَأَنَّ الْأَذَان مَشْرُوع فِي السَّفَر، وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَقُول: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالكُمْ فِي نَفْس الْأَذَان، وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ فِي آخِر نِدَائِهِ. وَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْأُمّ فِي كِتَاب الْأَذَان، وَتَابَعَهُ جُمْهُور أَصْحَابنَا فِي ذَلِكَ، فَيَجُوز بَعْد الْأَذَان، وَفِي أَثْنَائِهِ لِثُبُوتِ السُّنَّة فيهمَا، لَكِنَّ قَوْله بَعْده أَحْسَن لِيَبْقَى نَظْم الْأَذَان عَلَى وَضْعه، وَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ قَالَ: لَا يَقُولهُ إِلَّا بَعْد الْفَرَاغ، وَهَذَا ضَعِيف مُخَالِف لِصَرِيحِ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَلَا مُنَافَاة بَيْنه وَبَيْن الْحَدِيث الْأَوَّل حَدِيث اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا جَرَى فِي وَقْت وَذَلِكَ فِي وَقْت، وَكِلَاهُمَا صَحِيح قَالَ أَهْل اللُّغَة: الرِّحَال: الْمَنَازِل سَوَاء كَانَتْ مِنْ حَجَر وَمَدَر وَخَشَب، أَوْ شَعْر وَصُوف وَوَبَر وَغَيْرهَا، وَاحِدُهَا: رَحْل.قَوْله: (نَادَى بِالصَّلَاةِ بِضَجْنَانِ) هُوَ بِضَادِ مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ جِيم سَاكِنَة ثُمَّ نُون وَهُوَ جَبَل عَلَى بَرِيد مِنْ مَكَّة.1128- قَوْله: (إِنَّ الْجُمُعَة عَزْمَة) بِإِسْكَانِ الزَّاي، أَيْ وَاجِبَة مُتَحَتِّمَة، فَلَوْ قَالَ الْمُؤَذِّن: حَيّ عَلَى الصَّلَاة لَكُلِّفْتُمْ الْمَجِيء إِلَيْهَا وَلَحِقَتْكُمْ الْمَشَقَّة.قَوْله: (كَرِهْت أَنْ أُحْرِجكُمْ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة مِنْ الْحَرَج وَهُوَ الْمَشَقَّة، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَاتهمْ.قَوْله: (فِي الطِّين وَالدَّحْض) بِإِسْكَانِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَبَعْدهَا ضَاد الْمُعْجَمَة، وَفِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة الدَّحْض وَالزَّلَل، هَكَذَا هُوَ بِاللَّامَيْنِ، وَالدَّحْض وَالزَّلَل وَالزَّلَق وَالرَّدْغ- بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَان الدَّال الْمُهْمَلَة وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة- كُلّه بِمَعْنَى وَاحِد. وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة مُسْلِم رَزَغ بِالزَّايِ بَدَل الدَّال بِفَتْحِهَا وَإِسْكَانهَا، وَهُوَ الصَّحِيح وَهُوَ بِمَعْنَى الرَّدْغ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَطَر الَّذِي يَبُلّ وَجْه الْأَرْض.قَوْله: (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو رَبِيع الْعَتَكِيّ) هُوَ الزَّهْرَانِيّ.قَالَ الْقَاضِي: كَذَا وَقَعَ هُنَا جَمْع بَيْن الْعَتَكِيّ وَالزَّهْرَانِيّ، وَتَارَة يَقُول الْعَتَكِيّ فَقَطْ، وَتَارَة: الزَّهْرَانِيّ.قَالَ: وَلَا يَجْتَمِع الْعَتَك وَزَهْرَان إِلَّا فِي جَدّهمَا؛ لِأَنَّهُمَا اِبْنَا عَمّ، وَلَيْسَ أَحَدهمَا مِنْ بَطْن الْآخَر؛ لِأَنَّ زَهْرَان بْن الْحَجْر بْن عِمْرَان بْن عُمَر، وَالْعَتَك بْن أَحْمَد بْن عَمْرو، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيه عَلَى هَذَا فِي أَوَائِل الْكِتَاب. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى سُقُوط الْجُمُعَة بِعُذْرِ الْمَطَر وَنَحْوه، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب آخَرِينَ، وَعَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى خِلَافه. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ..باب جَوَازِ صَلاَةِ النَّافِلَةِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ: 1129- قَوْله: عَنْ اِبْن عُمَر: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سُبْحَته حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ نَاقَته»، وَفِي رِوَايَة: «يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِل مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجْهه» وَفيه نَزَلَتْ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه} وَفِي رِوَايَة: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى حِمَار وَهُوَ مُوَجَّه إِلَى خَيْبَر». وَفِي رِوَايَة: «كَانَ يُوتِر عَلَى الْبَعِير». وَفِي رِوَايَة: «يُسَبِّح عَلَى الرَّاحِلَة قِبَل أَيِّ وَجْه تَوَجَّهَ، وَيُوتِر عَلَيْهَا غَيْر أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة» فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَة فِي السَّفَر حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرْطه أَنْ لَا يَكُون سَفَر مَعْصِيَة، وَلَا يَجُوز التَّرَخُّص بِشَيْءٍ مِنْ رُخَص السَّفَر لِعَاصٍ بِسَفَرِهِ، وَهُوَ مَنْ سَافَرَ لِقَطْعِ طَرِيق أَوْ لِقِتَالٍ بِغَيْرِ حَقّ أَوْ عَاقًّا وَالِده أَوْ آبِقًا مِنْ سَيِّده أَوْ نَاشِزَة عَلَى زَوْجهَا، وَيُسْتَثْنَى الْمُتَيَمِّم فَيَجِب عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَجِد الْمَاء أَنْ يَتَيَمَّم وَيُصَلِّي، وَتَلْزَمهُ الْإِعَادَة عَلَى الصَّحِيح، سَوَاء قَصِير السَّفَر وَطَوِيله، فَيَحُوز التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَة فِي الْجَمِيع عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَلَا يَجُوز فِي الْبَلَد، وَعَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا فِي سَفَر تُقْصَر فيه الصَّلَاة، وَهُوَ قَوْل غَرِيب مَحْكِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: يَجُوز التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّة فِي الْبَلَد، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك، وَأَبِي يُوسُف صَاحِب أَبِي حَنِيفَة. وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَة لَا تَجُوز إِلَى غَيْر الْقِبْلَة وَلَا عَلَى الدَّابَّة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ إِلَّا فِي شِدَّة الْخَوْف. فَلَوْ أَمْكَنَهُ اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة وَالْقِيَام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود عَلَى الدَّابَّة وَاقِفَة عَلَيْهَا هَوْدَج أَوْ نَحْوه جَازَتْ الْفَرِيضَة عَلَى الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا، فَإِنْ كَانَتْ سَائِرَة لَمْ تَصِحّ عَلَى الصَّحِيح الْمَنْصُوص لِلشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: تَصِحّ كَالسَّفِينَةِ، فَإِنَّهَا يَصِحّ فيها الْفَرِيضَة بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ كَانَ فِي رَكْب وَخَافَ لَوْ نَزَلَ لِلْفَرِيضَةِ اِنْقَطَعَ عَنْهُمْ وَلَحِقَهُ الضَّرَر قَالَ أَصْحَابنَا: يُصَلِّي الْفَرِيضَة عَلَى الدَّابَّة بِحَسْب الْإِمْكَان وَتَلْزَمهُ إِعَادَتهَا، لِأَنَّهُ عُذْر نَادِر.قَوْله: «حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَته» يَعْنِي فِي جِهَة مَقْصِده.قَالَ أَصْحَابنَا: فَلَوْ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْر الْمَقْصِد فَإِنْ كَانَ إِلَى الْقِبْلَة جَازَ وَإِلَّا فَلَا.1132- قَوْله: «وَهُوَ مُوَجِّه إِلَى خَيْبَر» هُوَ بِكَسْرِ الْجِيم أَيْ مُتَوَجِّه، وَيُقَال: قَاصِد، وَيُقَال: مُقَابِل.قَوْله: «يُصَلِّي عَلَى حِمَار» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْره: هَذَا غَلَط مِنْ عَمْرو بْن يَحْيَى الْمَازِنِيّ، قَالُوا: وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف فِي صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَته أَوْ عَلَى الْبَعِير، وَالصَّوَاب أَنَّ الصَّلَاة عَلَى الْحِمَار مِنْ فِعْل أَنَس كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيّ حَدِيث عَمْرو. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ وَمُتَابِعِيهِ، وَفِي الْحُكْم بِتَغْلِيطِ رِوَايَة عَمْرو نَظَر؛ لِأَنَّهُ ثِقَة نَقَلَ شَيْئًا مُحْتَمَلًا، فَلَعَلَّهُ كَانَ الْحِمَار مَرَّة وَالْبَعِير مَرَّة أَوْ مَرَّات، لَكِنْ قَدْ يُقَال: إِنَّهُ شَاذّ فَإِنَّهُ مُخَالِف لِرِوَايَةِ الْجُمْهُور فِي الْبَعِير وَالرَّاحِلَة، وَالشَّاذّ مَرْدُود، وَهُوَ الْمُخَالِف لِلْجَمَاعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَم.1136- قَوْله: «وَيُوتِر عَلَى الرَّاحِلَة» فيه دَلِيل لِمَذْهَبِنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَحْمَد، وَالْجُمْهُور أَنَّهُ يَجُوز الْوِتْر عَلَى الرَّاحِلَة فِي السَّفَر حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَأَنَّهُ سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هُوَ وَاجِب وَلَا يَجُوز عَلَى الرَّاحِلَة. دَلِيلنَا هَذِهِ الْأَحَادِيث فَإِنْ قِيلَ: فَمَذْهَبكُمْ أَنَّ الْوِتْر وَاجِب عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ لَهُ عَلَى الرَّاحِلَة؛ فَدَلَّ عَلَى صِحَّته مِنْهُ عَلَى الرَّاحِلَة، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْعُمُوم لَمْ يَصِحّ عَلَى الرَّاحِلَة كَالظُّهْرِ. فَإِنْ قِيلَ: الظُّهْر فَرْض وَالْوِتْر وَاجِب وَبَيْنهمَا فَرْق، قُلْنَا: هَذَا الْفَرْق اِصْطِلَاح لَكُمْ لَا يُسَلِّمهُ لَكُمْ الْجُمْهُور وَلَا يَقْتَضِيه شَرْع وَلَا لُغَة، وَلَوْ سُلِّمَ لَمْ يَحْصُل بِهِ مُعَارَضَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.وَأَمَّا تَنَفُّل رَاكِب السَّفِينَة فَمَذْهَبنَا أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا إِلَى الْقِبْلَة إِلَّا مَلَّاح السَّفِينَة فَيَجُوز لَهُ إِلَى غَيْرهَا لِحَاجَةٍ، وَعَنْ مَالِك رِوَايَة كَمَذْهَبِنَا وَرِوَايَة بِجَوَازِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ لِكُلِّ وَاحِد.1137- قَوْله: «يُسَبِّح عَلَى الرَّاحِلَة وَيُصَلِّي سُبْحَته» أَيْ يَتَنَفَّل، وَالسُّبْحَة بِضَمِّ السِّين وَإِسْكَان الْبَاء: النَّافِلَة.1138- قَوْله: (تَلَقَّيْنَا أَنَس بْن مَالِك حِين قَدِمَ الشَّام) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ جَمِيع الرِّوَايَات لِصَحِيحِ مُسْلِم.قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ وَهْم، وَصَوَابه (قَدِمَ مِنْ الشَّام) كَمَا جَاءَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْبَصْرَة لِلِقَائِهِ حِين قَدِمَ مِنْ الشَّام، قُلْت: وَرِوَايَة مُسْلِم صَحِيحَة، وَمَعْنَاهَا: تَلَقَّيْنَاهُ فِي رُجُوعه حِين قَدِمَ الشَّام، وَإِنَّمَا حَذَفَ ذِكْر رُجُوعه لِلْعِلْمِ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم..باب جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي السَّفَرِ: قَالَ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ: يَجُوز الْجَمْع بَيْن الظُّهْر وَالْعَصْر فِي وَقْت أَيَّتهمَا شَاءَ، وَبَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء فِي وَقْت أَيَّتهمَا شَاءَ فِي السَّفَر الطَّوِيل. وَفِي جَوَازه فِي السَّفَر الْقَصِير قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحّهمَا: لَا يَجُوز فيه الْقَصْر. وَالطَّوِيل ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّة، وَهُوَ مَرْحَلَتَانِ مُعْتَدِلَتَانِ كَمَا سَبَقَ، وَالْأَفْضَل لِمَنْ هُوَ فِي الْمَنْزِل فِي وَقْت الْأُولَى أَنْ يُقَدِّم الثَّانِيَة إِلَيْهَا، وَلِمَنْ هُوَ سَائِر فِي وَقْت الْأُولَى وَيَعْلَم أَنَّهُ يَنْزِل قَبْل خُرُوج وَقْت الثَّانِيَة أَنْ يُؤَخِّر الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَة، وَلَوْ خَالَفَ فيهمَا جَازَ وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ. وَشَرْط الْجَمْع فِي وَقْت الْأُولَى أَنْ يُقَدِّمهَا وَيَنْوِي الْجَمْع قَبْل فَرَاغه مِنْ الْأُولَى، وَأَلَّا يُفَرِّقَ بَيْنهمَا، وَإِنْ أَرَادَ الْجَمْع فِي وَقْت الثَّانِيَة وَجَبَ أَنْ يَنْوِيه فِي وَقْت الْأُولَى، وَيَكُون قَبْل ضِيق وَقْتهَا بِحَيْثُ يَبْقَى مِنْ الْوَقْت مَا يَسْعَ تِلْكَ الصَّلَاة فَأَكْثَر، فَإِنْ أَخَّرَهَا بِلَا نِيَّة عَصَى، وَصَارَتْ قَضَاء، وَإِذَا أَخَّرَهَا بِالنِّيَّةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّي الْأُولَى أَوَّلًا، وَأَنْ يَنْوِي الْجَمْع، وَأَنْ لَا يُفَرَّق بَيْنهمَا، وَلَا يَجِب شَيْء مِنْ ذَلِكَ. هَذَا مُخْتَصَر أَحْكَام الْجَمْع، وَبَاقِي فُرُوعه مَعْرُوفَة فِي كُتُب الْفِقْه، وَيَجُوز الْجَمْع بِالْمَطَرِ فِي وَقْت الْأُولَى، وَلَا يَجُوز فِي وَقْت الثَّانِيَة عَلَى الْأَصَحّ لِعَدَمِ الْوُثُوق بِاسْتِمْرَارِهِ إِلَى الثَّانِيَة. وَشَرْط وُجُوده عِنْد الْإِحْرَام بِالْأُولَى وَالْفَرَاغ مِنْهَا وَافْتِتَاح الثَّانِيَة، وَيَجُوز ذَلِكَ لِمَنْ يَمْشِي إِلَى الْجَمَاعَة فِي غَيْر كِنٍّ بِحَيْثُ يَلْحَقهُ بَلَل الْمَطَر، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ لَا يَجُوز لِغَيْرِهِ. هَذَا مَذْهَبنَا فِي الْجَمْع بِالْمَطَرِ، وَقَالَ بِهِ جُمْهُور الْعُلَمَاء فِي الظُّهْر وَالْعَصْر وَفِي الْمَغْرِب وَالْعِشَاء، وَخَصَّهُ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى بِالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء، وَأَمَّا الْمَرِيض فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ، وَجَوَّزَهُ أَحْمَد وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَهُوَ قَوِيّ فِي الدَّلِيل كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي شَرْح حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَجُوز الْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِسَبَبِ السَّفَر وَلَا الْمَطَر وَلَا الْمَرَض وَلَا غَيْرهَا إِلَّا بَيْن الظُّهْر وَالْعَصْر بِعَرَفَاتٍ بِسَبَبِ النُّسُك، وَبَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِمُزْدَلِفَةَ بِسَبَبِ النُّسُك أَيْضًا، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره حُجَّة عَلَيْهِ.1140- قَوْله فِي حَدِيث اِبْن عُمَر: «إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْر جَمَعَ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بَعْد أَنْ يَغِيب الشَّفَق» صَرِيح فِي الْجَمْع فِي وَقْت إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ. وَفيه إِبْطَال تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهمْ: إِنَّ الْمُرَاد بِالْجَمْعِ تَأْخِير الْأُولَى إِلَى آخِر وَقْتهَا، وَتَقْدِيم الثَّانِيَة إِلَى أَوَّل وَقْتهَا. وَمِثْله فِي حَدِيث أَنَس إِذَا اِرْتَحَلَ قَبْل أَنْ تَزِيغ الشَّمْس أَخَّرَ الظُّهْر إِلَى وَقْت الْعَصْر، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنهمَا، وَهُوَ صَرِيح فِي الْجَمْع فِي وَقْت الثَّانِيَة. وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى أَوْضَح دَلَالَة وَهِيَ قَوْله: «إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَر أَخَّرَ الظُّهْر حَتَّى يَدْخُل أَوَّل وَقْت الْعَصْر، ثُمَّ يَجْمَع بَيْنهمَا». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَيُؤَخِّر الْمَغْرِب حَتَّى يَجْمَع بَيْنهَا وَبَيْن الْعِشَاء حِين يَغِيب الشَّفَق» وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ اِبْن عُمَر عَلَى ذِكْر الْجَمْع بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ جَوَابًا لِقَضِيَّةٍ جَرَتْ لَهُ، فَإِنَّهُ اِسْتَصْرَخَ عَلَى زَوْجَته فَذَهَبَ مُسْرِعًا وَجَمَعَ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء فَذَكَرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِأَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَفْق السُّنَّة، فَلَا دَلَالَة فيه لِعَدَمِ الْجَمْع بَيْن الظُّهْر وَالْعَصْر، فَقَدْ رَوَاهُ أَنَس وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا مِنْ الصَّحَابَة.1145- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر وَعَمْرو بْن سَوَّاد قَالَا: أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِر بْن إِسْمَاعِيل عَنْ عُقَيْل) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتنَا أَهْل بِلَادنَا (جَابِر بْن إِسْمَاعِيل) بِالْجِيمِ وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ بِلَادنَا (حَاتِم بْن إِسْمَاعِيل)، وَكَذَا وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاة الْمَغَارِبَة، وَهُوَ غَلَط، وَالصَّوَاب بِاتِّفَاقِهِمْ (جَابِر) بِالْجِيمِ، وَهُوَ جَابِر بْن إِسْمَاعِيل الْحَضَرِيّ الْمِصْرِيّ.قَوْله فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «إِذَا عَجَّلَ عَلَيْهِ السَّفَر» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (عَجَّلَ عَلَيْهِ)، وَهُوَ بِمَعْنَى عَجَّلَ بِهِ فِي الرِّوَايَات الْبَاقِيَةِ.
|